فصل: الطرف الثاني: في الورع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الطرف الثاني: في الورع:

وبه مسألتان:

.المسألة الأولى: في بيان طريق الورع والحث عليه:

ولا خفاء بأن المكاسب المجتمع على تحريمها الربا، ومهور البغايا، والسحب، والرشا، وأخذ الأجرة على النياحة، والغناء، والكهانة، وادعاء الغيب، وعلى اللعب والباطل كله.
ومن الكسب الحرام المجتمع عليه، أيضًا، الغصب، والسرقة، وكل ما لا تطيب به نفس مالكه من مسلم أو ذمي. وكل هذه المحرمات يجب تركها، لكن لا ينبغي الاقتصار على تركها فقط، بل يترقى في المكلف إلى ترك المشتبهات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
قال الإمام أبو عبد الله: هذا الحديث جليل الموقع عظيم النفع في الشرع حتى قال بعض الناس: إنه ثلث الإسلام. وذكر حديثين آخرين هما الثلثان الباقيان.
قال: وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا الحديث لكون المكلف متعبدًا بطهارة قلبه وجسمه، وأكثر المذام والمحظورات إنما تنبعث من القلب، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى إصلاحه، ونبه على أنه إصلاح لجملة الجسم، وأنه الأصل، والأحكام والعبادات التي يتصرف الإنسان عليها بقلبه وجسمه تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات، التساهل فيها وتعويد النفس الجرأة عليها يكسب فساد الدين والعرض.
فنبه صلى الله عليه وسلم على توقي هذه، وضرب لها محسوسًا لتكون النفس له أشد تصورًا والعقل أعظم قبولاً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الملوك لهم أحمية لا سيما، وهكذا كانت العرب تعرف في الجاهلية أن العزيز فيهم يحمي بروجًا وأفنية، فلا يتجاسر عليها، لا يدني منها، مهابة من سطوته، وخوفًا من الوقوع في حوزته. وهكذا محارم الله سبحانه من ترك منها ما قرب فهو من توسطها أبعد ومن تحامى طرف الشيء أمن عليه أن يتوسط، ومن طرف توسطه، فالمؤمن يكون على حذر. وبجانب كل ما ذكره الله سبحانه من مقال أو أفعال، أو تضييع ما فرض الله عز وجل عليه في قلب أو جارية، ويثبت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير أو فعل جارية حتى يتبين له ما يترك ويفعل، فإذا تبين له مال كره الله عز وجل جانبه بعقد قلبه وكف جوارحه عنه، ومنع نفسه من الإمساك عن الفرض وسارع إلى أدائه.
والذي يترك أربعة أشياء: اثنان يجب تركهما:
أحدهما: يتعلق بأفعال القلوب، وهو ما نهى الله عز وجل عنه من العقد بالقلب على الضلال، والبدع، والغلو في القول عليه بغير الحق، ولا يعتقد إلا الصواب.
والثاني: من أفعال الجوارح، وهو ما حرم الله سبحانه عليه من الأخذ والترك.
وأما الثالث: فهو ترك الشبهات خوف مواقعة الحرام، وهو لا يعلم، استبراء للدين، لتمام الورع كما تقدم في الحديث.
وأما الرابع: فترك بعض الحلال الذي يخاف أن يكون سببًا وذريعة إلى الحرام كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا باس به حذرًا لما به بأس».
قال بعض العلماء: وذلك تركه فضول الكلام، لئلا يخرجه ذلك إلى الكذب والغيبة وغيرهما مما حرم الله تعالى، ويترك بعض المكاسب مما تقل فيه السلامة للمكتسبين، ويدع طلب الإكثار من المال خوف أن لا يقوم بحق الله عز وجل فيه.
قال غيره: وترك مجالسة من قد جرب أنه لا يسلم معه، ويقل من معرفة الناس خوفًا أن لا يسلم، ويكف عن بعض المطعم إذا أحس من نفسه أن ذلك يبطرها، ويدع أن يحلف صادقًا، وهو له حلال، مخافة أن يعود لسانه اليمين فيحلف كاذبًا، ويدع النصرة ممن ظلمه مخافة أن يعتدي، فما زال التقوى بالمتقين حتى تركوا الكثير من الحلال مخافة الحرام.

.المسألة الثانية: في بيان وجوب تصفية القوت وطريق الاجتهاد فيه:

أما الأول فقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صلحًا إن الله بما تعملون عليم}.
وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم}»
. قال سحنون: الطيب هو الحلال.
قال أبو عبد الله: واعلم أن عماد الدين وقوامه هو طيب المطعم، فمن طاب مكسبه زكا عمله، ومن لم يصحح في طيب مكسبه خيف عليه أن لا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع عمله، لأن اله تبارك وتعالى يقول: إنما يتقبل الله من المتقين.
قال: وقد أخبرني سحنون بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن عبد العزيز الزاهد، يرفع الحديث إلى عائشة رضي الله عنها قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله من المؤمن؟ قال: الذي إذا أصبح سأل من أين فرضيه، قلت: يا رسول الله من المؤمن؟ قال: الذي إذا أمسى سأل من أين فرضيه. قالت: يا رسول الله لو علم الناس لتكلفوه، فقال: قد علموا ذلك، ولكنهم غشموا المعيشة غشمًا». قال الشيخ أبو محمد: يقول: تعسفوا تعسفًا.
ونظر عمر إلى المصلين، فقال: لا يغرني كثرة رفع أحدكم رأسه وخفضه، الدين الورع في دين الله، والكف عن محارم الله، والعمل بحلال الله وحرامه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أمسى وانيًا من طلب الحلال بات مغفورًا له».
وقال الحسن: الذكر ذكران: ذكر اللسان فذلك حسن، وأفضل منه ذكر الله عند أمره ونهيه.
وقال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها.
قال أبو عبد الله: فعليكم بالنظر في طيب مكاسبكم، والاجتهاد لأنفسكم، ولا تنظر إليها على الغش، فإنكم تفضون بأعمالكم إلى من لا تخفى عليه ضمائركم، فقد بان لكم أن رأس دينكم الورع، وملاك أمركم طيب الكسب، فإن أتيتم فمن قبل الأهواء الزائفة.
وقد خرج أبو عيسى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لكعب: «يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحب، إلا كانت النار أولى به».
وخرج عن أبي هريرة أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب. وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين» وذكر الحديث الأول.
قال: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك».
وأما بيان طريق الاجتهاد فيه فبسلوك طريق الورع. قال الشيخ أبو عمران: طريق الورع هو أن لا يكون في الشيء المقتنى مغمز ولا مطعن.
قال: وذلك في وقتنا هذا أمر قد أعرض عنه الناس لشدته عليهم، ولتعذر الصافي الطيب من المكاسب. والنظر في المعيشة أن لا يغشمها العبد واجب.
قال: وتحصيل الثمن الطيب في وقتنا هذا ما يتعلق به من الشبه عزيز، لكن الأمر فيه كما قال القاسم بن محمد: لو كانت الدنيا كلها حرامًا أكان لك بد من العيش؟.
ثم قال: فمن حصل له كسب طيب وأراد شراء قوته، فليتلطف جهده في شراء أطيب ما يجد، فإذا بذل وسعه واستفرغ طاقته وقع، إن شاء الله، من ذلك على ما تسكن إليه نفسه، فإن تعذرت عليه معرفة أصله فشراء الخبز، وما تقل من بلد إلى بلد من مكيل أو موزون خير من شراء ما يخاف أن يكون الغصب أو الربا أو البيع الفاسد خالطه، ثم بقي قائمًا بعينه إلى حين شرائه إياه، لأن القائم بعينه لربه أخذه، ويجب رده في الفساد، والفائت إنما يلزم من أفاته مثله في ذمته، وشراء ما أفيت بوجه غير مستقيم ليس من الورع بسبيل، إنما هو داخل فيما لا ينقض على من باعه ولا من اشتراه، وإن ذمة من يشتريه ممن أفاته خالية من التباعات.
فأما حقيقة الورع فترك ذلك وإن أفيت. كما كره مالك رضي الله عنه، أن يتسلف المسلم من نصراني ديناراً باع به خمرًا، وأن يأكل من طعام اشتراه النصراني بذلك الدينار، يعني باع ذمي من ذمي خمرًا نقدًا، وذمة النصراني خالية، فكيف بمن أفات ما هو مطلوب بمثله لإفاتته إياه، وهو غير مالك له، أو لأنه اشتراه شراء فاسدًا.
وقد كره مالك، أيضًا، شراء طعام من مكتري الأرض بالحنطة، هذا ومذهبه أن الطعام كله له، وإنا عليه كراء الأرض عينًا.
قال: وطريق الورع يشق مطلبه، ويعسر في كثير من الأوقات وجوده، إلا بعون الله عز وجل، لكن يتجزأ بالأشبه من الموجود، فالأشبه هو الذي يمكن في كل حين واللوم على الكفاف مرتفع. والدين لا حرج فيه، وليس المتحري لحدود الإسلام كالذي يمزح فيه ويلعب.
وقال، في إخبار البائع عما باعه أنه طيب: إن كان ثقة متورعًا يعلم ما يجتنب من المعاملات قبل قوله، وإن كان على خلاف ذلك فقبول قوله ليس هو حقيقة الورع، لكن هو خير ممن يقول: لا أدري شأنه، فهو من باب الأخذ بالأشبه.
وقال في اشتباه الأقوات في الأسواق: ما علم استقامة أصله منها أو ستره عن الحرام حمل على ذلك، إذا جهلت حقيقته وتعذرت معرفته، وما غلبت عليه الريبة عمل على اجتناب ما جهل منه حتى تنكشف صحة أصله..
وإذا لم يجد المتحري ما يتحرى به إلا سؤال الباعة فليجتزئ منهم بأحسنهم توقفًا وأصدقهم قولاً.
قال: ولا يقال في الغلة: إنه لا شبهة فيها، إن كانت الأصول ردية، وإن كانت ملكًا لمن اغتلها كما أخبرتك في طعام من يكتري الأرض بالطعام الذي يخرج منها.
وقد منع سحنون، رحمه الله، رجلاً كسبه من بلد السودان أن يعمل قنطرة يجوز عليها الناس بقر دار سحنون، هذا وكسب بدل السودان لا مطعن فيه علمناه في عينه، وإنما الكراهة في نفس السفر لوجوه أخر، لا في المكسب.
ولو كانت الغلة لا شبهة فيها لجوزنا أن يشتري من طعام من حرث في أرض مغصوبة ببقر مغصوبة، وزريعة مغصوبة ونحن فلا نأمر بهذا ابتداء وإن كان لا ينقض إن وقع، إلا أن الغلة تختار على ما ليس بغلة.
وهكذا هذا الباب كما أشرت لك، إنما يرجع إلى ما كان أمثل فأمثل على قدر الإمكان، وإلى اعتبار الغالب، لئلا يخل بوجه التحري دفعة، وليسلم من أن يكون من الغاشمين الخابطين العشواء في معيشتهم لا يبالون ولا يتحرجون.

.فصل به اختتام الكتاب:

اعلم أن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل واعتزال شرور الناس. ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وقد قيل: إن العاقل لا ينبغي أن يرى إلا ساعيًا في تحصيل حسنه لمعاده، أو درهم لمعاشه، فكيف به مع ذلك إن كان مؤمنًا عالمًا بما أعد الله عز وجل له من الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية.
ويحق على العالم أن يتواضع لله عز وجل في علمه، ويحترس من نفسه، ويقف على ما أشكل عليه، ويقل الرواية جهده، وبنصف جلساءه، ويلين لهم جانبه، ويثبت سائله، ويلزم نفسه الصبر، ويتوقى الضجر، ويصفح عن زلة جليسه، ولا يؤاخذه بعثرته.
ومن جالس عالمًا فلينظر إليه بعين الإجلال، ولينصت له عند المقال، فإن راجعة راجعه تفهمًا لا تعنتًا، ولا يعارضه في جواب سائل يسأله، فإنه يلبس بذلك على السائل ويزري بالمسئول.
وتنتظر بالعالم فيئته، ولا تؤخذ عليه عثرته، وبقدر إجلال الطالب للعالم ينتفع الطالب بما يستفيد من علمه، ومن ناظره في علم فبالسكينة والوقار وترك الاستعلاء، فحسن التأني وجميل الأدب معينان على العلم، ونعم وزير العلم الحلم، وما أولى بالعالم صيانة نفسه عن كل دناءة وعيب، وإن لم يكن مأثمًا.
وإن أولى الناس بالمروءة والأدب وصيانة الدين ونزاهة الأنفس لذوو العلم؛ وحقيق على العالم أن لا يخطو خطوة لا يبتغي بها ثواب الله، ولا يجلس مجلسًا يخاف عاقبة وزره، فإن ابتلى بالجلوس فيه، فليقم لله عز وجل بواجب حقه في إرشاد من استحضره ووعظه، ولا يجالسه بموافقته فيما يخالف الله عز وجل في مرضاته، ولا يتعرض منه حاجة لنفسه، ولا أحسبه، وإن قام بذلك، ينجو ولا يسلم فيما بينه وبين الله عز وجل. ومن إجلال الله، عز وجل، إجلال العالم العامل، وإجلال الإمام المقسط. ومن شيم العالم أن يكون عارفًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه، متحرزً من إخوانه، فلم يؤذ الناس قديمًا إلى معارفهم، والمغرور من اغتر بمدهم له، والجاهل من صدقهم على خلاف ما يعرف من نفسه.
والله سبحانه وتعالى المسئول في أن يوفقنا للإقبال على امتثال مأموراته، والإحجام عن ارتكاب محظوراته، ويلهمنا ما يقر من أجره وثوابه، ويباعد من سخطه وعقابه بمحمد وآله.
ولنختم الكتاب بالصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
آخر السفر الثاني من كتاب عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة.
وهذا آخر الديوان.
والحمد لله على تيسيره كثيرًا.
والصلاة التامة على محمد رسوله وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا موصولاً.
وفرغ منه ناسخه الفقير لرحمة مولاه: علي بن محمد بن علي بن فرج القيسي نفعه الله تعالى به في أواخر ذي قعدة من سنة ست وأربعين وستمائة هـ.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم بعون الله الجزء الثالث من كتاب عقد الجواهر الثمينة.
وبه ينتهي الكتاب.